قال بعض الأدباء: من لبس البياض، وتختّم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو، وتفقه للشافعي، وروى قصيدة ابن زيدون فقد استكمل الظرف.
قصيدة ابن زيدون المقصودة في هذا القول، هي النونيّة الشهيرة، التي يقول في مطلع أبياتها:
أضْحَى التّنائي بديلًا من تَداَنِينَا ونابَ عَنْ طِيبِ لُقْيانَا تَجَافِينَا
استهلالٌ مُجاد الوصف بارع التعبير، فأضحى يحمل في طياته من الحزن واللوعة ما يحمله، وينشر من روحه ومشاعره ما ينشره. وتابع ابن زيدون بالمقابلة بين شطري هذا البيت؛ ليزيد على مآسيه وأحزانه؛ وليعبر عن تغيّر أحواله وترديها، فقد حلّ التنائي محلّ التلاقي، والتجافي محل التداني، وطابق بين التداني والتنائي، وبين طيب اللقيا والتجافي، فأكدّ على اختلاجات ذاته وعمق معاناته، وقصد استخدام الجناس بين تدانينا وتجافينا، والتداني والتنائي، وبين من وعن حتى لتشعر بأنك تعزف بدلًا عن اللفظ لجمال كلماته وتناغمها.
كلّ هذا في بيتٍ واحدٍ من قصيدته الرائعة التي كتبها لحبيبته ولادة، بعد هروبه من السجن، عارضًا لها حبه وشوقه ولوعته، وراجيًا إياها الدوام على العهد وحفظه، والوفاء لأيامٍ قضياها معًا.
أما حبيبته فهيّ ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن الناصري، الخليفة الأموي، وقيل عنها في كتب التاريخ: “كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعبًا لجياد النظم والنثر، يَعْشو أهل الأدب إلى ضوء غُرَّتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها”، وربّما يعطينا هذا الوصف فيها نظرةً أوضح عن عظمة الحب الذي أدى لعظمة هذه القصيدة .
يبقى أن تعرف شاعرنا، هوَّ ذو الوزارتين أبو الوليد أحمد بن عبد الله المخزوميّ، المشهور بابن زيدون، وُلِدَ بقرطبة سنة 1003م، وتوفي في اشبيلية سنة 1070م. وقد خُلّد حبّ ابن زيدون وولادة الذي لم يُعرف أحقيقةٌ هوّ أم وهمٌ، في قرطبة، حيث يوجد منحوتةٌ هيّ عبارة عن يدان تكادان تتلامسان، تستندان على حجرٍ، كُتب عليه بيتٌ من الشعر لولادة، وبيتٌ آخر لابن زيدون.
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا وناب عن طول لقيانا تجافينا
ألا وقد حان صبح البين صبّحنا حين فقام بنا للحين ناعينا
هذه الأبيات هي للشاعر ابن زيدون، وهو ذو الوزارتين أو الوليد أحمد بن عبدالله المخزومي الملقب بابن زيدون، ولد في قرطبة عام 394 هجري في فترة خلافة هشام بن الحكم، والده فقيه من سلالة بني مخزوم القرشيين، أصبح ابن زيدون وزيراً وسفيراً لدى الملوك، عشقه كان ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن الناصري الخليفة الأموي، وكانت شاعرة مجيدة ومغنية جعلت من مجلسها ملتقى للشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها.
أما عن الديوان الذي إليه ينتمي بيت الشعر أعلاه فكانت تسمى نَونية ابن زيدون، أرسلها الشاعر كقصيدة إلى ولادة بعد هروبه من السجن، يسألها أن تبقى على عهده ويتحسر على أيام وصلهما، حيث حوت القصيدة روائع وبدائع النظم البلاغية الفريدة قلما توجد في قصيدة أخرى، حيث اختيرت الألفاظ بعناية لكي تعبر عن العاطفة الصادقة للشاعر اتجاه محبوبته، أما محسنات الألفاظ والمعنى فكانت ملائمة لرسالة الشاعر، فكثرة المقابلات والطباق يدلان على معاناة شخص أضناه الحزن، البيت أعلاه كان افتتاحية القصيدة وإشارة إلى مضمونها كلها فكانت من أجمل الافتتاحيات، حيث عبرت المقابلة بين الشطرين إلى معاناة الشاعر وتبدل حاله كما استخدم محسنات اللفظ في المطابقة بين التداني والتنائي وطيب اللقاء والتجافي لتضفي على هذا المعنى جمالاً وبلاغةً.
يذكر أن ابن زيدون عندما هرب من السجن تواصل مع المعتضد والي اشبيلية وعاش في كنفه، وبقي في بلاطه حتى وفاته أما ولادة فتزوجت من منافسه ابن عبدوس الأمر الذي قال فيه ابن زيدون:
أكرم بولادة غلقاً لمتلق
لوفرقت بين بيطارٍ وعطارِ
قالوا أبو عامر أضخى يلم بها
قلت الفراشة قد تدنو من النار
يتميز الشعر العربي بجماله ورقته وبلاغة ألفاظه، وقدرته على التعبير عن العواطف والمشاعر بطريقة تلامس قلوب كل من تصل إليه، و الشعر من أهم ما يميز العالم العربي منذ العصر الجاهلي وحتى الآن، وهناك الكثير من الشعراء المشهورين الذين نظموا الكثير من القصائد في مختلف الاغراض الشعرية (الغزل، الرثاء، الشكوى…).
ومن أجمل ما قيل في الشكوى والبكاء من ألم الفراق: (أضحى التنائي بديلًا عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا).
هذا بيت من أبيات قصيدة طويلة للشاعر المملوكي المشهور ابن زيدون،كتب هذه القصيدة بعد هروبه من السجن وأرسلها لمحبوبته ولادة يشكو فيها ألم البعد والفراق ويخبرها عن حاله ببعده عنها، وكانت هذه القصيدة سببًا في شهرة ابن زيدون وتصنيفه من بين أفضل شعراء الغزل في العالم العربي.
ابن زيدون هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن احمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي، وهو من أشهر شعراء العصر المملوكي كتب في مختلف أغراض الشعر، ولد في قرطبة عام 394 هجري، عاش حياته في كنف جده ووالدته وانصرف في شبابه إلى اللهو والمتعة، فقد كان ذلك العصر عصر الانفتاح.
عاش معتزًا بنفسه وبحسبه ونسبه وثرائه،وكان عاشقًا للموسيقا والفن وتعلم على يد أفضل المعلمين في ذلك العصر، وكل ذلك ساهم في تكوين شخصيته وحبه للشعر وضلوعه في هذا المجال.